لا أعرف السبب في أن تترصد النساء المسنات المتحدثين في نهاية الندوات والمؤتمرات الخاصة بالثورة المصرية, وأن يشاركوهم مخاوفهن وتصوراتهن. في حالتي, كانت المرة الأولي في برشلونة, حينما استوقفتني ثلاث نساء ليسألنني إن كنت إشاركهن الرأي في أن ثورات العالم العربي هي مجرد مؤامرة من قبل المخابرات الأمريكية, لتخريب الاقتصاد الأوروبي!!!. كان هذا بعد أسبوعين من انتصار الثورة علي مبارك. إلا أن المرة الأخيرة كانت قبل أيام قليلة, في الجنوب الإسباني. تسألني إحدي السيدات عما سيحدث إن انتصر الإسلاميون في الانتخابات ؟. رددت عليها ببساطة بأن القوي السياسية الديمقراطية ستحترم نتائج الانتخابات, وستظل تناضل من أجل دولة ديمقراطية علمانية ومجتمع أكثر عدلا واحتراما لمواطنيه. كان سؤالها التالي: وماذا عن إسرائيل؟.. أجبتها بأنني لا أعتقد بأن أيا من القوي السياسية المصرية ستقوم بإلغاء اتفاقية كامب ديفيد.
إلا أنه من البديهي أنه في حالة تمكننا من بناء نظام ديمقراطي حقيقي, سيكون هذا ضارا لإسرائيل. علي سبيل المثال لن نهديها الغاز المصري. وكما أن هذا النظام الديمقراطي سيفرض معادلات وحقائق جديدة في الشرق الأوسط. فأفحمتني بجملتها الأخيرة: أنا خايفة جداعلي مستقبل إسرائيل.. ربنا يحميها.
هذه ندوة من الندوات التي يدعو إليها المثقفون العرب نظراءهم من الأوروبيين التقدميين, وكذلك الأكاديميون, للحديث مع الجمهور الأوروبي عما يحدث في منطقتنا وما يسمونه بالربيع العربي. وفي أي مدينة أوروبية, ربما لا يمر أسبوع دون ندوة جديدة تتعلق بهذا الموضوع.
إلا أن هناك نوعا أخر من الندوات, واسع الانتشار, لا يستهدف توعية الجمهور الأوروبي بالثورات العربية, عبر شهادات من شاركوا بها, أو من يتابعونها بشغف. هو عبارة عن حوارات تتم ما بين قادة الرأي العام وصناع القرار أو من يمثلونهم. هدفها مختلف تماما, وهو وضع التصورات والخطط للتعامل مع, ومواجهة, موجة التغيير في العالم العربي. كان آخرها قبل يومين بالعاصمة الإسبانية, شارك بها القليل من المتخصصين والكثير من خبراء وزارتي الخارجية والدفاع, ومن ضمنهم بعض قادة الجيش. وبالطبع السفير المصري في إسبانيا الذي قال قبل11 فبراير إن مايحدث مجرد شغب وإن الأمور عال العال.
النوع الأول من الندوات يتوجه لجمهور متعاطف بالأساس مع هذه الثورات والانتفاضات, إلا أنه لا يفهم ما يحدث بوضوح.
بالتالي يتم التركيز علي المعلومات, وشهادات النشطاء. أما النوع الثاني, فإنه لا يخرج عن سياق التصورات الاستعمارية التقليدية, التي تستهدف حماية المصالح الأوروبية في المنطقة, أيا كان الثمن. وتستهدف حماية من يحمي تقليديا هذه المصالح عن قرب..أي إسرائيل.
والمشاركون في هذه الحالة لديهم المعلومات الكافية, عبر أجهزة مخابراتهم, لا يحتاجون للمعلومات التي يحتاجها جمهور النوع الأول من الندوات. وبالتالي فليس من المستغرب أن تتم الحوارات حول عدد من المواضيع الأساسية, من ضمنها تأثير الثورات علي المصالح الأوروبية, بالذات في دول النفط, ومصر باعتبارها الدولة العربية الأهم, وتأثير الثورات علي باقي الدول الإفريقية والآسيوية ومخاطر امتدادها, وتحولها لموجة من موجات التحرر, وأن تتوهم الشعوب أنها قادرة علي التحكم في مواردها, وتأثير هذه الثورات أيضا علي إسرائيل, قطعة العالم الغربي المزروعة بتعسف في قلب عالم آخر.
وأخيرا استراتيجيات التعامل الأوروبي مع ثوراتنا, وما يسمونه بالشراكة.. الإسلاميون, وصولهم للسلطة من عدمه, حريات النساء, حقوق الإنسان, هي مسائل هامشية في هذه الحوارات. لكن السؤال غير الهامشي هو: هل تستطيع شعوبنا السيطرة علي مقدراتها؟ هل تتوقف هذه الثورات قبل بلوغها الجانب الاجتماعي والاقتصادي؟ أوروبا ليست كتلة واحدة بالطبع, هناك أوروبا الشعوب المستنيرة, ورأس المال المتعدد الجنسيات, والقوي السياسية والعسكرية ذات الامتداد الخارجي عبر حلفائها, وأيضا القطاع الواسع من المواطنين الذي لا يعي ما يحدث, وإن شم به رائحة الخطر علي مستوي حياته اليومية في الحالة المصرية تحديدا. ورغم المفاجأة, وعدم توقع أن تمتد الشرارة التونسية لمصر, كانت قدرة مراكز صنع القرار في الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة علي المواجهة والتعامل أفضل من الحالة التونسية, برغم ارتباكها اللحظي. من هنا يمكننا فهم الدعم الواضح للجيش في تحركاته وسياسته, بعد أن اتخذ قرار التضحية بـ مبارك وابنه. لعبة السياسة لم تتوقف عند هذه المرحلة, أتت ليبيا فيما بعد. والنجاح في تحويل الثورة الليبية لحرب أهلية ليس فقط لحماية النفط الليبي, وإنما لفرملة الموجة الثورية وإعطاء الدروس للمصريين. نعيش الآن المرحلة الثالثة: الاحتواء.. سنمنحك الديمقراطية المحدودة, تحت وصايتنا ووصاية قيادة القوات المسلحة, علي ألا تطالب بالمزيد.
في هذا السياق تتنافس كل البلدان الأوروبية علي من سيلتهم الجزء الأكبر من الكعكة, وعن النموذج الديمقراطي ـ السابق الإعداد, القابل للتصدير, وعلي المقاس ـ الذي سيكتب له النجاح والقبول. في إحدي الندوات اختلف صحفيان, أحدهما تحدث عن ترويض الإخوان المسلمين, وتحويلهم لـ حيوان منزلي. بينما ركزت صحفية أخري علي ضرورة تقديم الدعم المالي لأحزاب الشباب الليبرالي الجديدة. مع بحث بسيط في الإنترنت سيكتشف القارئ كم الأموال المخصصة لمصر الآن.
ليس من أجل التنمية, وإنما للمعرفة والتأثير. المئات من الريبورتاجات التليفزيونية, تحقيقات صحفية, أفلام.. إلخ. وأيضا برامج لدعم الديمقراطية, كما يريدها صناع القرار, وملخصها: ابتسم, فأنت قد انتصرت.. حققت الديمقراطية.. فلتعد لمنزلك! رغم بعض الخلاف والتنوع في النماذج المطروحة, فإن القارئ يعي بوضوح أن هذه النماذج تلتقي حين يتعلق الأمر بمستقبلنا. تلتقي في أن يكون التحول محدودا.. تغيير بعض الوجوه الأساسية دون تغيير جوهر النظام ذاته. وأن يتم الاحتفاظ بمصر, كقاعدة متقدمة تحمي مصالحهم عبر الفساد وتغييب المبادرة الشعبية. ليس هناك أي ضمان حول أي من النماذج سينتصر, نماذجهم علي مقاسهم أم نموذجنا علي مقاسنا وصناعة محلية؟. ربما نجد المصريين يصرخون في الشوارع, في مليونيات قادمة: سيبونا في حالنا.. مش عايزين ديمقراطيتكم.
|
No hay comentarios:
Publicar un comentario