شاهد أغلبنا هذا المقطع المصور يوم ٢٨ يناير، عائلة صغيرة في ميدان التحرير، يسيرون باتجاه الكاميرا، في خلفيتهم، علي المدي البعيد، حشود الأمن المركزي. دخان قنابل الغاز يمنح الصورة لونا رماديا، لكنه لا يمنع عنا ملاحظة أنها عائلة فقيرة. في المقدمة يسير الأب ذو اللحية الطويلة، ممسكا بيد الابن الذي لم يتجاوز السنوات العشر، وراءهما تسير الأم المحجبة، ممسكة بيد الابن الأصغر. لا يلتفتان للقنابل المتساقطة بقربهما، ويتقدمون بثبات. الطفل الأكبر يحاول أن يمسح دموعه، ربما تكون من فعل الغاز أو الخوف، بينما الأم بحزم وبغضب، وبكبرياء بالغ، تأمره: (متعيطشي… خليك راجل… خليك راجل عشان محدش يدوس عليك)!!! بالرغم من هذا الربط الشائك بين عدم البكاء والرجولة، فإن كلمات الأم، مع هذه الصورة، لم تمنع عني مشاعر الألم والفخر في كل مرة كنت أشاهد فيها هذا المقطع. فيما عدا المرة الأخيرة، فمبررات البكاء كانت هي ذاتها، الألم والفخر، ولكن أضيف إليها شعور واضح باحتمال الخسارة. ربما يكون الإحساس بالخطر، في ألا يتمكن هذا الطفل من العيش بكرامة، أن يداس وتتم إهانته، فيجلس مع زوجته عند الأمسيات، بعد ثلاثين عاما، ليحاولا تدبير كيفية إطعام أولادهما، بالجنيهات القليلة التي يملكانها.
تذكرت هذا المشهد حين كنت أتابع أخبار الإفطار الإخواني السنوي، وخصوصا ما يخص قائمة “الثوار” الذين تمت دعوتهم – السيد البدوي علي سبيل المثال. تأملت قطاعا من نخبتنا السياسية الجديدة، نتاج ثورة يناير، متسائلا عن إمكانية أن يحقق هؤلاء الكرامة لهذه العائلة. إلا أنه، وللأمانة، لم يكن التساؤل الوحيد، بل استوقفني غياب المجلس العسكري عن هذا الإفطار!!!
غياب الجنرالات ربما يعود لأحد هذه الأسباب: أن العسكر “الأذكياء والمحنكين” لم يذهبوا للإفطار لنفي تقاربهم وتحالفهم مع الإخوان. أو أنهم كانوا مشغولين بإفطار آخر يتم مع مواطنين، أو فلول، أو ثوار، (حسب التقسيمة الحالية للمجتمع المصري). أو أنهم بوصفهم قادة الثورة والوطن، كانوا مشغولين باستكمال مهام هذه الثورة وتأمين حياة عادلة للمواطنين. من المحتمل أن يكونوا في اجتماع تشاوري حول المواد الغذائية التي تباع عبر الجيش، بأسعار مخفضة في المناطق الشعبية، وكأنها هدية من المجلس العسكري الحاكم، تم إنتاجها في مزرعته الخاصة وبجهده الخاص. ربما هم لا يصومون أصلا، ويكرهون فعل الإفطار، ولذلك قاموا بفض إفطار التحرير قبل يومين، وضرب الصائمين الذين حاولوا الإفطار سويا، فلن يذهبوا بالتالي لإفطار الإخوان!!! في هذه الحالة الأخيرة ينبغي السؤال حول السبب في عدم فضهم لإفطار الإخوان بالقوة؟ هل السبب هو أنه قد تمت دعوتهم لإفطار الإخوان فلم يلبوا الدعوة كاتمين غيظهم، ولم تتم دعوتهم لإفطار ميدان التحرير، فغضبوا وانتهزوا الفرصة لإفساده وضرب المشاركين به؟
في هذه الحالة، النصيحة واجبة: عزيزي الثوري، قبل أن تقوم بأي فعل، عليك مراعاة كل أطياف المجتمع المصري، تستأذن الفلول والسلطة وتدعوهم لهذا الفعل أو المناسبة، لا تشغل الحيز العام دون موافقة كل القوي السياسية، من أكبرها لأصغرها، حتي لا تتهم بالخروج عن الوفاق، وأخيرا عليك أن تؤكد للشعب أنك لن تنتقص من استقراره.
بعيدا عن السخرية، هل هذه هي النتيجة التي وصلنا إليها بعد ستة شهور من الثورة؟ في أحد المؤتمرات، ألقي “إيغناثيو رامونت” – رئيس التحرير السابق لجريدة “لوموند” الفرنسية، وأحد أبرز مفكري تيار مواجهة العولمة – محاضرة تحدث فيها كثيرا عن الثورة المصرية، وأطلق نصيحة، قائلا: (علي الثورة المصرية أن تستولي علي أجهزة الإعلام المملوكة للدولة، وتطهيرها تماما، حتي لا تكون الثورة مرهونة بأجهزة الإعلام المستقلة، وبمصالح رجال الأعمال الذين يمتلكونها). لم ألتفت كثيرا لهذه النصيحة، بدت لي غير جوهرية، رددت عليه بأن (الثورة الآن في الشارع، وهذا هو الأهم). فقال: (الشعب لا يستطيع التواجد في الشارع طويلا، ومن الضروري أن يستمر الزخم الثوري لإنجاز كل مهام الثورة، وأحد شروط استمراره هو هذا الاستيلاء علي الإعلام)!!! كان هذا الحديث في شهر إبريل، بعد أربعة شهور، ثبتت صحة تصوره، وسذاجة تصوري. فعملية تسييس وابتذال الثورة تسير قدما علي جميع المستويات.
التسييس المقصود هنا هو تحويل الثورة لأداة للمكسب السياسي، الحزبي والانتخابي. ابتذالها في كثرة الأغاني والإعلانات التي تستخدمها كموضوع. صناعة رموز ونجوم جدد، لا تعرف عنهم أو عن تاريخهم شيئا. العشرات من الائتلافات واللجان التي تحمل جميعها أسم “الثورة”، يذهبون للسيد شرف أو للمجلس العسكري ليعطوه أسماء مرشحيهم لحركة المحافظين أو للوزارة. تحويل محاكمة المخلوع، التي ينبغي بالطبع الانتباه إليها، إلي جوهر وهدف العملية الثورية، وكأن الثورة قد قامت من أجل محاكمة المخلوع لقتله الثوريين المشاركين بها!!! تحالفات تُصنع وتُفض، ورشاوي انتخابية خلال رمضان، وقبل شهور من الانتخابات. بحر عارم من الحوارات و”المكلمات”، تتزامن مع ترسيخ تقسيمات غريبة (حزب الكنبة، الشعب، الثوار، والفلول) وعليك الانتماء لإحداها. أحزاب ورقية، لعبت دائما دور الكومبارس عديم الموهبة وقليل المبدئية، تسترد الآن عافيتها، وكأنها هي من قامت بالثورة وقادتها. تجاهل من السلطة للمطالب الشعبية والمساومة عليها، وحين تتحقق، لا تتحقق كاملة. إنهاكنا بمعارك جانبية وهامشية طوال الوقت: مقاطعة شركة تليفونات، أو موقع إلكتروني، أو الانضمام لصفحة محبي حازم عبد العظيم بعد منع الوزارة عنه، أو صفحة “الراجل أبو طاقية حمرا اللي بيحب يسلم علي المجرمين”. تصوير الشباب المتمسك بحقه في التظاهر والاعتصام والاحتجاج، وكأنه المسئول عن الكوارث المجتمعية والاقتصادية وغياب الأمن، بسبب افتقاده للحكمة. حرب نفسية وسياسية ضد حق الإضراب، وإنكار أنه كان السلاح الحاسم في هزيمة مبارك، وتصويره كأنه جريمة في حق الوطن. الآلاف من المقالات “الحكيمة ذات البعد السياسي المستقبلي”، المنتمية لنفس لغة ما قبل يناير، في حين يخرج عليك من يريد منعك من الكتابة، ويقول لك لا تكتب عن أسيادك!!! ويسار مصري ثوري مشتت في ثلاثة أحزاب جديدة، ولا تعلم تحديدا لماذا هو مقسم بينها، ومبررات هذا الانقسام… (الجملة الأخيرة مهياش هدية لخلية الشتيمة والتحريض اللي تم تكليفها للتركيز علي موقع “البديل”، عشان يسيبوني في حالي، بالعكس، ممكن يفضلوا منتعشين)…!!!
القائمة تطول، وتجعلنا نتساءل، كيف يكون حال هذه العائلة المشار إليها في البداية، الآن، وبعد شهور من الثورة؟ هذه الأم في ميدان التحرير، قالت لابنها: (خليك راجل عشان محدش يدوس عليك). لم تقل له: (خليك راجل عشان تكون وزير أو زعيم حزب). وهذا هو جوهر الخلاف بين التصورين، تسييس للثورة أو تثوير للسياسة. هل المطلوب هو تحجيم الثورة ونقلها للقاعات والغرف والموائد السياسية؟ أم أن علي الثورة أن تتحول لأداة صراع اجتماعي وسياسي، يومي، من أجل مستقبل أفضل؟ هل القضية هي أن يكون الحكم القادم باسم شرع الله؟ أم ببرامج محددة تحقق أهداف الثورة وطموحات الفقراء ممن قاموا بها؟ هل من الضروري أن تكون الغلبة في هذه المرحلة لصوت ابراهيم الهضيبي وأمثاله من كل التيارات السياسية، ممن يتم تحجيمهم الآن؟ أم لمحترفي السياسة وألعابها ومساوماتها؟ هل عليّ الاحتجاج ضد من قمعوا الصائمين حين حاولوا الإفطار في ميدان التحرير؟ أم عليّ أن أصمت كي لا أوضع في القائمة السوداء؟ وبالتالي أخسر مكاسب سياسية محتملة!!!
وكما أن مشهد هذه العائلة في ميدان التحرير، ورغبتهم في ألا يدوسهم أحد، سوف يظل ماثلا ومحوريا أمام الكثيرين، ستظل جملة شاعرنا المتوفي، أمل دنقل، كحقيقة مطلقة، ينبغي كسرها: من يملك العملة يمسك بالوجهين، والفقراء بين بين…!!!
الفقراء ودمهم ومصالحهم هي المعركة الثورية الحقيقية، والخط الأحمر الوحيد. رمضان كريم.
basel@dayraarts.com
No hay comentarios:
Publicar un comentario