بائع الورد الخائن
أثناء لقائي مع بعض الأصدقاء في أحد مطاعم مدريد، بعد منتصف الليل، أتوقف عن الحديث فجأة، لأشير إليهم أن هذا الرجل الأربعيني الذي يبيع الورد علي بعد خطوات، هو من المؤكد مصري. كانت المرة الأولي التي أراه، و لكن شيئا ما من ملامح وجهه، إبتسامته، وطريقته في المشي أعطتني هذه الثقة بأنني أمام مواطني. سألته بعاميتنا إن كان مصريا، و يجيبني بنفس العامية بأنه عراقي، وبأنه عاش أعوام عديدة في مصر بعد نهاية الحرب قبل الأخيرة، و لذلك يتقن عاميتنا. بعد خمس دقائق من الحديث حول الحي الذي عاش فيه، يعترف لي قبل المغادرة، و بصوت خافت (خوفا من أن يكون هناك من يعرف لغتنا) بأنه مصري و أسكندراني. و أمام دهشتي لإنكاره بأنه مصري، يوضح لي أنه يقول بأنه عراقي لأن: (ده بيمشي أكتر مع الزباين، بصعب عليهم لما بقول أني عراقي).
صديقي (الخائن) وفقا لرئيسنا العظيم، إذا كان الرئيس هو من يكتب هذا المقال، يتنكر لوطنه العظيم الجائع، لينتسب كذبا لوطن أخر عظيم و مذبوح. هو يعرف دون أن يقرأ أي تحليل - عميق أو سطحي - حول المجتمعات الأوروبية أو إسبانيا و علاقتها بمسائل الهجرة، أن الفرق وارد، قائم، و أحيانا حاسم لتلقي معاملة ما دون غيرها.
في إسبانيا، أن تكون مغربيا أو جزائريا، هو وضع مختلف جذريا عما إذا كنت مصريا، أو عراقيا. الجوع يوحد الجميع، إلا أن الجوع و فقط ليس مأساة كافية. درجة تواجد و حجم الجالية تفرقهم، فإذا كثرنا فنحن مرفوضين، مثلما هو الحال بالنسبة للمغاربة و الجزائريين. و إذا كنا من بلاد النيل، التي لا يعرف عنها أغلب الإسبان سوي بعض لمحات من تاريخها الفرعوني البائد، فأنت مقبول بدرجة أكبر، و تثير حولك بعض الجاذبية و الإثارة. أما إذا كنت من العراق، فأنت مسكين، فالحرب التي صنعها الغرب ذاته تميزك و تعطيك بعض العطف. الحرب نفسها مختلفة، فليست هي ذات الحرب إن كانت في فلسطين، أو في لبنان، فالفلسطيني و اللبناني إن لم يكونوا مسيحيين، فهم من المحتمل أن يكونوا إرهابيين، بالمعني المبتزل للكلمة. يضاف في الحالة العراقية لدي الإسبان، هذا الشعور المبهم بالذنب، لمشاركة حكومتهم السابقة في الحرب، و إحساس بالقرب و التعاطف، لمجرد أن رئيس الوزراء الذي ينتمي للحكومة الجديدة سحب القوات الإسبانية من العراق.
لن أتحدث الأن عن التمييز في المعاملة في حالة النساء المهاجرات، فهذه قصة أخري، و لكن فقط آذكر القارئ بما نعرفه جميعا، بأن المرأة المهاجرة المحجبة تختلف بشكل كامل عن تلك التي لا ترتدي الحجاب، حتي و إن إرتدت الأثنتين جينز ضيق.
و عودة لهذا الشعور المبهم بالذنب، و الذي يتواجد لدي الفئات غير الفاعلة ثقافيا أو سياسيا، سوف يخفت و يتراجع بعد بضعة سنوات، ليترك صديقي بائع الورد المتجول دون بعض القروش. سوف يتراجع بمنطق أم كلثوم فالوقت قادر علي محو الألم. تراجع و إنتهي بالفعل تجاه المستوطنات السابقة في بعض مناطق أفريقا، الفلبين، و كذلك في أمريكا اللاتينية. جرائم الحقب الإستعمارية، إبتعدت، تم نسيانها، و تحولت في الخطاب الرسمي و الشعبي إلي وضع جديد، تسمي فيه إسبانيا بأنها الوطن الأم.
لا أستطيع نسيان الكولوبي المهاجر في مدريد، و الذي قال مرة: (حين يتم الحديث عن إسبانيا في أمريكا اللاتينية يتم الحديث عن الأم، عن الوطن الأم، و لكنك حين تأتي لها تكتشف إنها أم سيئة، تهجر أبنائها و تسئ معاملتهم). و أضيف أنا هنا: بعد أن إمتصت دمائهم.
حين يتم الحديث في الأوساط الأكاديمية عن أسباب الهجرة، يتم التركيز علي أسبابها التقليدية و الشائعة، مثل الجوع، فقدان الأمان، الإضطهاد العنصري، غياب الديمقراطية، و الحروب. و لكن أحيانا يتم تجاهل الإستغلال المكثف الذي تمارسه الشركات الكبري الأتية من الشمال لموارد و ثروات هذا المسمي بالعالم الثالث، و إستغلالها أيضا للحروب الأهلية إن وجدت. و يفاجئك إنكار بعض هؤلاء الأكاديميين إلي أن الأستعمار قد شوه المسار الطبيعي لتطور المجتمعات المُستعْمرة، و أن جرائم الشمال الغني تلتقي مع جرائم حكامنا في دفع الملايين للهرب.
العنف هو الحرب و فقط، و كأن تصدير الفقر، الإستغلال، و سرقة مجتمعات أخري ليس عنفا. و الجوع هو مأساة (معتدلة و مقبولة نسبيا) لا تصلح لنا الأن كمبرر. و بما أنني قلق علي مصير صديقي بائع الورد، فأنني لن أعارض إن إجتاح حلف الناتو أحد البلدان، التي تناسب ملامحه المصرية، بعد أن يُجبر علي أن يتوقف عن كونه عراقيا، و يفسد الورد الذي يحمله.
باسل رمسيس
No hay comentarios:
Publicar un comentario