مجزرة غزة
أسطورة الدم القريب و الدم البعيد
مشاهدات أحدهم في بلاد الأندلس ١
الاعتذار واجب بداية، فهذا النص كان عنوانه الأصلي، و المناسب لموضوعه هو: مسخرة غزة. ربما بعض بقايا الخجل القديم هو ما فرض تغيير العنوان. فقد مرت سنوات دون كتابة مقال لجريدة، لأكتشف الآن أن تلبس روح الفيس بووك و البلوجرز غير المتهيبة من أي شئ، لا يناسب أحيانا من مارسوا بعضا من الصحافة خلال النصف الأول من التسعينات. فبعد بداية مجزرة غزة بيوم واحد و حتي هذه اللحظة و برغم كل الدماء التي تستهلكها هذه المجزرة، إلا أنني لا أتمكن من التوقف عن ملاحظة جانب المسخرة فيما يحدث، و هي المسخرة التي تدفع إلي الضحكك، البكاء، و الصراخ.
خلال اليوم التالي لبداية المجزرة كانت أول التظاهرات و الاعتصمات الاحتجاجية ضدها بمدريد، أمام السفارة الإسرائيلية، و كعادة اليساري الذي برغم عمله بالسينما، يعجز أحيانا عن نسيان الدم القريب أو البعيد، فيتجه للمظاهرات بمنطق دعمها بشخص إضافي، رغم عدم اتفاقه مع الكثير من شعاراتها، فذهب في الميعاد، بضع عشرات يفجرون غضبهم أمام مبني زجاجي بارد يحمل في أحد جوانبه علما إسرائيليا، و هنا كان التساؤل: علي بعد عدة مئات من الأمتار هناك مئات الآلاف من اليمين المحافظ و من الساذجين أيضا، يتجمعون برغم البرودة في أحد الميادين للاستماع عبر التلفزيون لبابا الفاتيكان، الذي يتحدث ضد الإجهاض، وضد المثليين جنسيا، و ضد موانع الحمل. و هنا يتجمع العشرات من الشيوعيين الإسبان وبعض العرب القليلين ليتضامنوا مع الجوعي و المذبوحين في غزة، فكان التساؤل حتميا أين هم إذن الإشتراكيون، الوسط؟ فكان الرد الضاحك من إحداهن، إنهم نيام فالجو بارد و نحن في أعياد الميلاد.
لم يكونوا نائمين تماما، فقد ظهروا علي شاشة التلفزيون الإسباني بعدها بساعات علي هيئة وزير خارجيتهم، ليصرح بأنهم ضد العنف في الشرق الأوسط، ولكن علينا بداية أن نتذكر أن حماس هي المسئولة الأساسية عن هذا العنف بإنهائها للهدنة.
الدم الفلسطيني في هذه الحالة هو الدم البعيد، و لذلك فإن دماء ٨٠٠ شخص في غزة تساوي في الأسواق أقل من دم أي إسباني واحد يواجه خطر عقوبة الإعدام في أحد البلدان بسبب إتجاره بالمخدرات.
ليس من الواجب أن تجعلنا العجرفة أن ننسي واجب شكر الدولة الإسبانية علي كونها تخصص الجزء الأول من نشرة الأخبار اليومية الرئيسية في التلفزيون الرسمي لما يحدث في (الشرق الأوسط) ولا تخصصه لما يحدث من قتل بدم بارد في غزة، موظفة لهذا الجزء مراسلا تلفزيونيا علي درجة شديدة من الخصوصية، فمشكلته ليست كونه غير متحدث بالعربية، وليس علي أي نوع من المعرفة الموثقة بما يحدث، فأصلا أغلب المتخصصين في شئون منطقتنا ليسوا علي أي معرفة إلا السياحية منها، لكن هذا المراسل يتميز بكونه أيضا غير قادر علي قول جملة واحدة مفيدة أو سليمة باللغة الإسبانية أصلا، فيسجن معه المشاهدين في عدم الفهم الكامل لما يحدث، و ليكتفي المشاهد ذو الدم البعيد إذا بالاستقبال المبسط: هؤلاء العرب من غزة ومسلحو حماس وجوههم غير مألوفة، يصرخون بهستيرية في جنازات أبنائهم الذين قتلوا، أما هؤلاء المسلحون، أعضاء الميليشيا المسماة مجازا بالجيش الإسرائيلي فهم يشبهوننا نحن الأوروبيين. و أعتذر هنا عن السخرية و عدم الدقة.
هذا هو ما يتكرر يوميا في أغلب وسائل الإعلام الأوروبية، تضاف إليه مفارقة أن هذه المجزرة تأتي في الوقت غير المناسب، فنحن في أعياد الميلاد، فبعد أحد الأخبار المطولة عما يحدث في هذا الشرق الأوسط البعيد، يوم الخامس من يناير الحالي، و الذي يوافق اليوم السابق لعيد الهدايا في إسبانيا، و المبني علي فكرة أن ملوك المجوس بعد زيارتهم لمهد يسوع الطفل، يبدأون رحلتهم وصولا لمنازل الإسبان حاملين الهدايا، و بما أن العادة هي احترام ذكاء الأطفال و ليس التعامل معهم باعتبارهم بلهاء كعادة كثيرين منا، أنهت المذيعة أخبار المجزرة لتبدأ في الحديث بجدية بالغة عن رحلة ملوك المجوس الآتين بالهدايا، فتخبرنا – نحن الأطفال - بأنهم في الطريق، سيصلون في موعدهم، برغم أن الرحلة من (الشرق) منهكة وطويلة، لتترك للكثيرين مرارة إكمال الجملة: وعليهم المرور فوق الكثير من أجساد و دماء أطفال غزة، حاملين الهدايا للأطفال الأوروبيين الناعمين بالسلام و المحبة.
عدم الفهم ذاته أصابنا نحن العرب المهمشين في بلاد الأندلس، و لكن هذه المرة من قبل جيش دفاعنا المسمي قناة الجزيرة، هذه القناة التي تشبه أجهزة التعبئة في الجيوش التقليدية، ولكنها تعبئة دون معركة، لا تعبأ بالتفكير لحظة قبل أن يقول مذيعوها أن آلاف (المسلمين) قد تظاهروا في مدريد. لمجرد وجود بعض العرب القليلين في هذه المظاهرات، بعضهم من البارعين دائما في الوصول للصفوف الأولي حاملين المصاحف، وهاتفين نفس الهتافات العنصرية ضد اليهود وليس ضد الصهاينة، بعد التكبيرات التقليدية في بداية المعارك، باللغة العربية بالطبع، بالرغم من توجهها لجمهور غير متحدث بها. وتكتمل هنا المسخرة مرة أخرى، فيضاف في هذه المناسبة الحذاء. و كأن هذا الصحفي العراقي الانفعالي و المخلص والذي يستحق التضامن و ليس تحويله إلى صلاح دين أيوبي جديد، أضاف لثقافتنا كنزا تعبيريا جديدا، لتكتمل مهزلتنا، التي ربما إحدى دلالاتها هي التعليقات المنشورة في الصفحة الإلكترونية لجريدة البديل من قبل بعض قراء المقال الجاد لشريف يونس حول ظاهرة الصحفي العراقي منتظر الزبيدي.
هذه المهزلة/المسخرة التي تجعلنا نسعي في أحيان كثيرة لمجرد التفريغ عبر الصراخ، مثلما يصرخ من يظهرون في الفاصل الإعلاني الحالي لقناة الجزيرة. فعلي سبيل المثال من الممكن التوقف أمام درجة صوت، ونوع البكاء، والخطاب الذي تردده إحداهن بهذا الإعلان: (اللي بيحصل في فلسطين ده حرام، إحنا عايزين عربيات تيجي تاخد مننا دمنا تودوهولهم). بالطبع ليس هناك نية للسخرية من هذه الشابة المصرية المنفعلة، فسلسلة مساخرنا طويلة، وأكثر جدية وربما لا تستثنينا جميعا وربما من الجدية تناولها في مقالات أخري، دون تناسي السؤال المتاح و الملح دائما، ألا وهو بغض النظر عن (أهمية) البكاء و الصراخ، ما هو البديل الحقيقي، أو الفعل الذي من الممكن أن يكون علي المدي البعيد ذا تأثير لوقف مهازلنا/ مساخرنا/ والمجازر التي ترتكب في حقنا، بإعتبارنا من أصحاب الدم القريب؟
باسل رمسيس
No hay comentarios:
Publicar un comentario