هي
ثورة الدهشة
أنه
يوم الإقرار الضريبي، ٢٥ يناير.
يوم
الوقوف في القاعة الضخمة لمصلحة الضرائب
في مدريد..
تتطلع
إلي شاشة الأرقام الإلكترونية، منتظرا
ظهور رقمك، لتسرع إلي المنضدة التي تحددها
الشاشة.
ليس
هناك ما يستدعي القلق أو محاولة التقاط
الأخبار.
عند
الظهيرة، وحفاظا علي الروتين اليومي،
تستكشف مستجدات الفيس بووك، موقنا بأنه
لن يدهشك.
لكنه
اليوم، ولأول مرة، يفاجئك.
تأتيك
الثورة عبر الفيس بووك، والقنوات الفضائية،
ونتف الأخبار والجمل السريعة علي الهاتف..
الثورة
هي صراخك البعيد أمام السفارة المصرية..
وتساؤلك
إن كان موقعك هو موقع المتفرج، المتضامن،
أم المشارك.
فترغب
في أن تكون مجرد مواطن يبحث عن الدهشة في
أقصي معانيها.
فتعود
إلي القاهرة التي غادرتها قبل عشرة أيام،
حين كان يتجمع في سمائها
رائحة غامضة.
أين
هي الشرطة؟ كيف تختفي من المطار؟ من هو
المتحكم في هذه الماكينة الهائلة للداخلين
والخارجين؟ هذه هي أسئلة فجر الأول من
فبراير..
وهي
الدهشة المفتقدة:
طائرة
خالية تحملك إلي القاهرة..
المئات
ممن يفترشون أرضية وزوايا المطار..
ولأول
مرة منذ ثلاثة عشر عاما، تاريخ هجرتك، لا
ينتظرك علاء كمال.
ينبهك
أحد الموظفين إلي أنه من الأفضل الانتظار
بالمطار لحين انتهاء حظر
التجول..
لا يعلم
أن ميدان التحرير لا ينتظر.
القاهرة
التي لا تنام، خالية تماما هذه المرة..
فقط أنت
وسائق سيارة الليموزين، سيارات الشرطة
المحترقة علي الجانبين، بعض الدبابات،
والكثير من اللجان الشعبية.
أحد
الشباب يتفحص أوراقك عند أول شارع عباس
العقاد، يبتسم لك ويقول:
(هو مش
قالنا خدوا مصيركو بأديكو؟ هناخده
بأيدينا.)
عند هذه
الناصية نفسها يدهشك منظر قسم الشرطة
المحترق..
فتبوح
للسائق بفرحتك..
في أن
تجد المكان الذي حبست به محترقا..
مشهرا
عقابه ومصيره.
عشاؤك
المتأخر في منزل الأهل يخلو من "فراخ
البانيه"
المعتادة..
(الحمد
لله)..
تخبرك
أمك بأنهم يحاولون تجويع الناس، عقابهم،
وإجبارهم علي التراجع..
فتكتفي
بقطعة الجبن والخيارة وبواقي الخبز.
تصيبك
الدهشة من الشباب الذين مايزالون
في أوائل العشرينات، ويخاطبونك بلقب
"أستاذ"،
ولأول مرة!
هل أصبحت
عجوزا؟ أحدهم يتطوع بتعليمك كيفية إلقاء
الطوب ليلة موقعة الجمل.
والآخر
يحطم السور بدلا منك، لبناء المتراس..
وينتابه
الخجل من تصديره لحقيقة أنه يتفوق عليك
بدنيا..
تندهش
من إحساسك بالغيرة من هؤلاء..
وتلعن
حظك الردئ، الذي جعلك تعيش الثورة وأنت
علي حافة الأربعين..
تتطلع
لطلاب جامعة عين شمس، جامعتك، فتخجل من
مفاصلك التي تؤلمك، وتندهش من لياقتهم..
فهم
يفترشون الرصيف ويغادرونه دون تأوه..
تندهش
وتفرح من اكتشافك لهذا
الالتزام الدائم بالميدان،
وبالصفوف الأولي، لأشخاص لم تتخيلهم
هنا..
ولم
ترهم قبلا علي هذه الصورة..
المخرج
تامر السعيد، بين هذه الحشود، في حالة
انسجام كامل معها.
ومحمد
عبلة يتجول دون تعب بالميدان، بابتسامة
هادئة، ليتوقف من حين إلي آخر ليشارك
الناس الذين لا يعرفهم شخصيا، لكنه يعرفهم
جيدا، شايهم وحواراتهم.
مازلت
قادرا علي الاستمتاع
بالرغيف الطازة الحاف، الذي تتقاسمه مع
هاني درويش، وأنتما سائران في وسط طريق
السيارات المهجور، خارجين من الميدان،
صباح يوم ٣ فبراير.
يندهش
هو من وجود بائع الخبز، ويشاركك الدهشة
من وسط البلد المحررة..
لتكتشفا
أنكما، والجميع، قد امتلكتم
كل البلد.
لم
تعد مهاجرا..
ولم تعد
غريبا...
أنت
هنا، والدهشة أنك مازلت من هنا..
منسجما
مع هذه الحشود، ولا تشعر بالغربة تجاهها..
تردد
معها كلمة "آمين"
حين
تصلي وتدعو في الميدان الذي احتلته..
تندهش
من انتمائك لها ومن محبتك
لصخبها..
لم يعد
هناك أي سكون..
كيف
يرون الميدان من طائراتهم الهليكوبتر؟
وعلي الأرض..
في كل
لحظة حدث جديد وفعل جديد..
بعد
السكون الكامل لعقود..
كنا فين
وبقينا فين!
تكتشف
عبر الأيام والشهور بأننا "نعم
نستطيع".
ليس
بطريقة أوباما في الـ "يس
وي كان"
الشهيرة،
والسطحية، لمجرد أن يحمل الناخبون رجلا
أسود إلي الرئاسة، لأنه شديد البياض..
لكن
"نعم..
نحن
نستطيع"
حقيقة،
إحداث تغيير إجتماعي عميق، وعبر الشارع.
الثورة
هي رفضنا لاعتياد رائحة الموت والبارود.
هي
احتفاظنا بدهشتنا تجاههما..
وبقدرتهما
علي أن يدفعانا للفعل..
للحركة..
لإلقاء
الحجارة، للصراخ، للإمساك بالكاميرا
أحيانا..
لنتركها
كي نتمكن من البكاء، ومسح دموعنا..
لنمرح
بعدها بلحظات مع الأصدقاء،
ونحتفي بالتفاصيل والنكات.
دهشة
يناير ٢٠١١ هي كون الاستبداد
لا يقاس بالترمومتر..
ودهشة
يناير ٢٠١٢ هي أن الترمومتر لا يمكن خلقه..
لا أحد
يعلم درجة الغليان ولحظة الانفجار المدهش.
هي
ثورة الدهشة.
باسل
رمسيس
No hay comentarios:
Publicar un comentario