كانت
قاعة كبيرة وملأي بالحاضرين.
لا
تتذكر أي قاعة كانت.
لكنك
تتذكر أنه كان عام ١٩٨٧ غالبا.
يصطحبك
أبوك معه، وأنت في الإعدادية، إلي هذا
المؤتمر السياسي.
لاتذكر
سوي بضعة شباب، يقفون من حين لآخر في
الممرات التي تفصل بين صفوف الكراسي،
للهتاف.
كانت
المرة الأولي التي تري فيها سيد، يلفت
نظرك لأنه كان أقصرهم، الوحيد ذو البشرة
الفاتحة والعيون الخضر..
وصوته
عال رنان.
تتذكره
أيضا بسبب هتافه باسم أحد الأيقونات التي
تربيت علي احترامها وتمجيدها..
سواء
في بيت أهلك، أو في العمل السياسي فيما
بعد.
هتف
سيد فتحي يومها:
“يا
نبيل قول واتكلم..
خللي
الناس منك تتعلم..
يا
هلالي قول علمنا..
الرجعية
مطلعه عينا".
هتاف
يكشف بوضوح أحد مفاتيح سيد فتحي التي
يعرفها الكثيرون..
نبيل
الهلالي، وما يعنيه لسيد فتحي.
كانت
هذه هي المرة الأولي.
بعدها
بحوالي ستة وعشرين عاما، تراه للمرة
الأخيرة.
في
مركب شراعي في النيل..
يوم
الرابع من يناير الماضي.
يجتمع
أبناء جيلك من الجامعة لتصوير المشهد
الأساسي لفيلمك عنهم.
ويردد
سيد ضاحكا عدة مرات "أنا
عايز أحكي حكاية عبدالله والديك الرومي"..!!
لم
يحكها.
لكنه
احتضن الجميع، تحدث عن الأزمة القلبية
التي عاني منها قبلها بحوالي سنة، عن
الظرف السياسي الثوري الذي نعيشه، عن
اعتزازه برفاقه وأصدقائه، قال أنه متفائل،
ودعا للتفكير في حزب أو تيار يجمعنا من
جديد، داعبنا جميعا وحكي ذكريات السجن،
غنينا معا، وقال ما لمس الجميع:
“إحنا
بقي فينا من بعض..
بقي
فيه جينات بتتنقل من واحد للتاني بشكل
وراثي ومن غير ما نتحكم فيها.
مكانتش
زمالة وصحوبية قهوة أو قسم في كلية..
كانت
زمالة حلم وسكة اخترناها بوعي..
إحنا
بقي فينا من بعض وده مهم جدا".
الغريب
أنك يومها شعرت بنفس الشعور القديم..
أن
بعض الناس بوجودهم يمنحونك احساسا غامضا
بالأمان والحماية.
وسيد
فتحي كان منهم.
بعد
الحواديت والذكريات والأفكار والأغاني..
وحالة
من النشوة والشجن..
يرحل
الجميع، ترحل أنت بعيدا لهذا البلد
الأوروبي البارد، بعيدا عن الصحبة..
لكن
سيد يرحل أبعد..
ربما
أقرب.
******
لماذا
يطالبونك بأن تكتب عن سيد فتحي؟ الكتابة
عن الأصدقاء الراحلين مرهقة وموجعة!!
دائما
هناك خيط رفيع إن تجاوزته تقع في الابتذال.
والأسوأ
أنك تكتب وتتخيل صديقك الراحل يقرأ ما
تكتبه عنه؟
تعرف
أن سيد فتحي كان يحب الرواية التقليدية
أو الكلاسيكية..
الرواية
التي تلجأ إلي طرق السرد الدرامية الخطية.
فيما
تعتقد أنه كان يفتقد الاستمتاع بالكتابة
المشوشة والسرد المتشظي.
لكنه
ربما يعذرك إن كتبت عنه بنفس الطريقة..
مشاهد
مبعثرة..
ونقلات
غير منطقية في الزمن.
******
مرت
سنوات علي المشهد الأول في هذه القاعة
الكبيرة، بهذا المؤتمر مشوش الملامح،
ورأيته عام ١٩٩٠ في ممر الصحافة بكلية
الحقوق، بجامعة عين شمس.
المكان
الذي يتجمع فيه يوميا "الطلاب
السياسيون"،
غالبا من اليسار والناصريين ليمارسوا
أنشطتهم.
هو
في آخر سنواته الجامعية، وأنت في أولها.
المجموعة
الأساسية من اليسار الشيوعي الجامعي التي
تنهي دراستها..
بالإضافة
إلي سيد كان هناك عبدالله طه، طارق العوضي،
جمال عيد، وأحمد حسن وغيرهم، وكأنهم
يسابقون الزمن قبل الرحيل عن الجامعة
لضمان حالة من الاستمرارية..
يحاولون
"التقاط"
عناصر
جديدة تشكل مجموعات جديدة من اليسار
الشيوعي في جامعة عين شمس.
تجنبت
أنت في البداية السياسة والعمل المباشر
والمظاهرات..
ظننت
أن دورك ربما يكون في الفن..
أو
ربما في البناء الهادئ بعيدا عما كنت
تسمية "الدوشة”.
تبادلهم
الزيارات في الممر أو في كلية التجارة،
وبعض الحوارات من حين لآخر..
لكنك
تبتعد دائما، عائدا لكليتك..
مهووسا
باستقلاليتك.
الاستقلالية
لعنة أحيانا..
في
فبراير ١٩٩١ تنتهي أجازة نصف العام التي
تم تطويلها من قبل نظام مبارك علي أمل أن
تنتهي حرب الخليج – الخاطفة -
قبل
عودة الجامعات وقبل اشتعالها بالرفض.
قبل
عودة الجامعة بأيام قليلة يتم القبض علي
أغلب من تصور أمن الدولة أنهم قادرون علي
إشعال الجامعة.
تبدأ
المظاهرات بالرغم من هذه الضربة الأمنية.
وهنا
تترك الحذر والحكمة و"الاستقلالية"
وتنخرط
بها.
تجد
نفسك جزءا من مجموعة شيوعيي الجامعة.
تختلط
الشعارات ما بين الوطني والاجتماعي، ومن
كل الألوان..
حتي
الشعارات المراهقة التي ظلت كنقطة سوداء..
مثل
هذا الشعار الشهير "إضرب
إضرب تل أبيب..
يا
صدام يا مهيب”.
لكن
ما يبقي في الذاكرة أكثر هو ما يمس زملاءنا
المعتقلين:
“سيد
فتحي يا ابن الوادي..
باب
زنزانتك سادد بابي".
ويتغير
الاسم من حين لآخر ليكون طارق العوضي أو
عبدالله طه..
أو
سامح سعيد فيما بعد.
أمن
الدولة يحاول انتهاز فرصة غياب سيد وطارق
وعبدالله..
أغلب
ذوي الخبرة، ليدشن تجربة جديدة في الجامعة،
أن يستعين بعناصر من الطلاب ذوي السوابق
أو المرتبطين بالأمن لضرب المتظاهرين
واجهاض المظاهرات.
تمر
الأسابيع ويخرج المعتقلون، ويقوم بعض
طلاب حزب العمل بضرب قائد المجموعة الأمنية
وإصابته بما يشبه العاهة المستديمة.
في
أحد الأيام وبينما كنت خارجا من الجامعة
بصحبة سيد وعبدالله طه، يستوقفكم بعض
هؤلاء الطلبة.
الطالب
الأمن، المشوه الوجه، يشتكي لسيد ويهدد
الجميع، يقول له “بص يا أستاذ سيد..
أنا
معايا مسدس أهو..
يعني
مش هسكت”.
وسيد
يرد بثبات وهدوء وبابتسامة مستهترة..
“بالراحة
بس، أنت عامل مشكلة علي أيه؟ أنت ضربت
الشباب وفلان وفلان ضربوك يعني خلاص
الموضوع خلص، ثم إحنا مابنتضربش”.
يرد
عليه هذا الطالب “أنت ماكنتش موجود يا
أستاذ سيد ومحدش ضربك!!”
وبنفس
الابتسامة والثبات يؤكد سيد “إحنا دي مش
معناها أنا..
إحنا
دي يعني كلنا..
إحنا
مجموعة مش أفراد”.
وتنبهر
بأن يخاطب الطالب الأمن رفيقك بلقب أستاذ!!
أستاذ
سيد!!
ولن
تنسي أبدا عبارة سيد "إحنا
مجموعة مش أفراد".
وتبدأ
الضلمة و"الدفا".
******
الضلمة
المتمثلة في بداية زمن جديد، ما أسماه
جورج بوش الأب النظام العالمي الجديد..
احتلال
ووجود عسكري أمريكي مباشر في المنطقة،
العراق..
الدولة
الضخمة تُكسر ومصر تشارك في ضرب بلد عربي،
الحرب الأهلية اللبنانية تنتهي بخطة
سعودية طائفية، الانتفاضة الفلسطينية
الأولي تتلاشي، الثورة الفلسطينية تجبر
علي لم أوراقها والجلوس في مدريد وبعدها
في أوسلو، بلدان الكتلة الشرقية تسقط
واحدة تلو الأخري، وفي أغسطس من نفس العام
ينتهي الاتحاد السوفيتي، وتبدأ الحملة
الأيديولوجية مبشرة بنهاية التاريخ
والأيديولوجيا..
مبشرة
باستحالة أي مشروع اشتراكي.
جريدة
الأهرام في صفحتها الأولي، وفي خبر صغير،
تشير إلي أنه قد وُجد بين وثائق الكي جي
بي السوفيتي وثيقة عن استلام "ر.س"
قائد
الحزب الشيوعي المصري لآلاف الدولارات
كدعم وكتمويل.
لا
تعنيك هذه المعلومة ولا تعني سيد، أنتم
أصلا لا تنتمون لهذه الصفوف..
لكن
الجميع واع بأن عصر الضلمة الكاملة قد
بدأ، وبعنف.
يبدأ
الدفا أيضا مصاحبا للضلمة..
حزب
الشعب الاشتراكي، نبيل الهلالي ويوسف
درويش.
تتوطد
الرفاقة والصحوبية، والمشاركة في كل شئ،
السجائر، السندويتش، تذكرة الأتوبيس..
كل
التفاصيل.
ولم
تنته لعنة الاستقلالية.
خلايا
جديدة وصغيرة تتشكل في الجامعة، يلعب سيد
فتحي الدور الرئيسي في بلورتها، تستطيع
أن تقول بأنه كان رمانة الميزان في أوقات
كثيرة.
يسلمونك
الجامعة، فتتصور نفسك زعيما..
فأنت
وريث قيادة الهتاف، والخلية من سيد
وعبدالله وطارق وعلاء كمال.
الدفا
مازال مستمرا، يغذيه الجميع، ويمنحه سيد
كثيرا من حس السخرية والتنكيت، الذي لا
يتعارض مع جديته.
لكن
الذات التي تتضخم تدريجيا تحتم الصدام.
وتجد
نفسك في حزب الشعب خلال عام ٩٢ تطالب
بالتحقيق مع سيد فتحي لأنه يتدخل في شؤون
الجامعة بالرغم من أنه قد غادرها!!
يتم
التحقيق مع سيد فتحي، وينتهي التحقيق
بتوصية واضحة بألا يتدخل في أي مسألة لها
علاقة بالجامعة وأن يمتنع عن الذهاب إليها
إلا بطلب أعضاء خلية الحزب بها!!
هل
شعرت بنشوة الانتصار وقتها؟ لماذا ظللت
شهورا طويلة لا تحيي سيد عند المقابلات
الطارئة في المقاهي أو في أي فاعلية؟
******
برغم
لعنة الاستقلالية عليك أن تعترف الآن
لسيد فتحي بشيئين:
إنك
مع الوقت تمنيت لو كنت أكثر نضجا وقتها،
ولم تطالب بهذا التحقيق.
تمنيت
لو كنت قادرا وقتها علي فهم قسوة التخرج
وترك الجامعة..
ترك
عالم الحرية المطلقة، العالم الملئ
بالإثارة والمغامرة والفعل والبطولة
والنجومية.
لكنك
فهمت ذلك متأخرا، بعد أعوام، حين غادرت
أنت أيضا عين شمس.
أن
تعترف له ثانيا بأن حبك واحترامك له قد
كبرا في لحظة محددة..
فحين
رفضت أنت أن تصافحه في أحد المقاهي، وقف
هو صارخا وشاتما..
"يا
ابن الكلب ده إحنا في النهاية رفاقة"..
وأصر
أن يحتضنك.
******
كان
فعلك هذا يا سيد فتحي هو فعل كرامة واعتزاز
بالرفاقة والصحوبية رغم أي شئ.
من
نفس نوعية إحساسك بالكرامة وفخرك بأنك
ابن عامل فقير في بهتيم.
فخرك
بالعمال المناضلين الذين عرفتهم، ووعيك
بتميزك بسبب هذه التربية وهذه المعايشة.
هو
نفس فخر أبيك بك..
بسيد
فتحي الطالب الشيوعي وسيد فتحي المحامي
الشيوعي..
فخره
بذاته كعامل وإحساسه بكرامته حين كان
يستقبلنا في بيته شديد التواضع، ليقدم
لنا الأكل المتاح بفرحة واعتزاز.
هو
نفس إحساس "لينا
سيد فتحي"
بالكرامة
والفخر والاعتزاز بأبيها وأمها وجدودها..
إصرارها
أن تنجح بتفوق في الابتدائية التي أمتحنتها
وقت غيابك.
موجع
أن ترحل يا سيد بعد شهور قليلة من رؤيتك
لجزء من حلمك يبدأ في التحقق..
بعد
أن بدأت تشارك في "الوليمة”..
وليمة
أن تكون في وسط الناس الكتير اللي ماليين
الشوارع.
لم
تكن بالنسبة لنا قديسا أو شخصية عامة يا
سيد.
كنت
صديقنا وزميلنا وفقط.
لا
نستطيع أن نراك بشكل مختلف..
فأنت
نفسك لم تصدق في القديسين.
ونعلم
أنهم لم يوجدوا أبدا.
وهذا
هو سر الوجع..
أن
يرحل صديقك وزميلك..
أن
يرحل من شاركته السجائر والقهوة والأسرار
والطريق والمشاوير والخطر والمغامرة
والضيق والإحباط والفرح والحلم..
الوجع
أن يرحل من هو جزء من لحمك ودمك..
أن
يرحل تاريخك الشخصي.
نعم
يا سيد..
طبعا
بقي فينا من بعض.
باسل
رمسيس